ما بين عشرة آلاف صحابي وقف بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبل عرفات في حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة، إلى ما يتجاوز الثلاثة ملايين مسلم يستعدون الآن للوقوف في نفس الموقف، تغيرت تفاصيل كثيرة في مكان الحج وتقنياته ومدته وتنظيماته. وتغيرت معها، وقبلها، ملامح كثيرة في شتى مناطق العالم. فقد حلت عشرات النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكُتبت العديد من الدساتير والتشريعات القانونية، وتبدلت كثيرٌ من الأعراف والثقافات، واكتُشفت مناطق جديدة وأقاليم، ودخلت شعوب مختلفة الإسلام وعوالم، فضخت حجاجًا كثيرين لبيت الله الحرام. غير أن فريضة الحج في مناسكها وشعائرها لم تتغير أبدًا. فهي كسائر العبادات، ظلت كما أراد الله لها ثابتةً راسخةً مستقرةً محفوظةً بحفظه. فمازال الإحرام من الميقات كما هو. ومازال الطواف والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفات والمبيت بمزدلفة ورمي الجمرات والذبح، لم يتغير في شيء منذ عصر النبوة وحتى الآن. فأحكام الحج وآدابه وكيفية تدريب الناس على تحمل متاعبه ومواجهة مشاقه ومصاعبه لم تتغير.
ولا جدال في أن عامل الزمن والتاريخ قد غيّر في كثير من الأمور المرتبطة بالحج وبعملية الوعي بالأماكن المقدسة، وفي استشعار الناس بعمق الشعائر والمناسك. وإذا كانت العصور الإسلامية الأولى قد تفوقت في عملية الاستشعار تلك، غير أن عملية الوعي بهذه الأماكن تصبُّ في صالح الجيل الحالي. فلم يعد الناس يجهلون، في زمن الإنترنت واليوتيوب، أية تفصيلة من تفاصيل بيت الله الحرام وكيفية أداء المناسك لحظة بلحظة. فصلاوات الحجيج وحلّهم وترحالهم تُنقل على الهواء مباشرة على مدار اليوم والليلة. لقد كانت وفود الحجاج في العصور السابقة تأتي من كافة أنحاء العالم الإسلامي ومن قاراته القديمة الثلاث، كالركب المغربي والمصري والشامي والتركي والعراقي والسوداني والهندي وغيره، لكنها الآن تأتي من قارات العالم الست. وإذا كان الحجاج في الماضي قد تعرضوا لمخاطر عظيمة وأهوال كبيرة خلال مرورهم ببعض البلدان أثناء سيرهم إلى بلاد الحرمين الشريفين أو رجوعهم منها، فإن هذه المخاطر قد اختفت تمامًا في عصرنا الحالي. وربما كانت الفائدة العلمية في السابق أقوى وأعمق في الحج من وقتنا الحالي. فقد كان العلماء يستفيدون من المكتبات وخزائن الكتب الموقوفة على الحرمين الشريفين، فضلاً عن شرائهم للعديد من المؤلفات من مختلف العلوم. الأمر الذي حفظ لنا كثيراً من المخطوطات من الضياع. ناهيك عن الكم الكبير من المؤلفات التي أنتجوها وصفاً لما شاهدوه أثناء إقامتهم في بلاد الحجاز، وخلال عملية مرورهم بالبلدان الإسلامية الواقعة في طريق الحج. فتركوا لنا وصفًا دقيقًا لطبيعة تلك البلدان وسكانها. وما تحويه من مساجد وآثار وأسواق ومكتبات ودور للعلم. وما تضمه من ذخائر وكنوز علمية وحياتية شكَّلت أساس العمران والحضارة.
وجدير بالذكر أن كتب التاريخ تحكي لنا، أن حجاجًا ورحالةً كتبوا لنا تعريفات مفصلة عن فضائل الحج وما يحتاج إليه الحجيج في طريقهم. كوسائل النقل والأدوات والمعدات وأنواع الملابس التي يجب أن يأخذوها معهم. وتحدثوا عن المحن والصعاب التي يتعرضون لها. ونبهوا على ضرورة حسن اختيار الأشخاص للعشرة خلال رحلة الحج، وكيفية الإنفاق فيها. وكتبوا عن الجمالين ومكائدهم مع الحجاج. وتحدثوا عن المناسك وفضل الحج والبيت، ونبهوا على ضرورة تحاشي بعض البدع التي كان يمارسها بعض الحجاج، كلحس الحجر الأسود باللسان عند الطواف. وفي هذا الإطار تحكي لنا كتب التاريخ بأن الحجاج المغاربة، على سبيل المثال، قد تنوعت وسائلهم في الوصول إلى مكة. فكانوا يسيرون في البر تارة، ويركبون البحر تارة أخرى، وأن طرقهم لم تخلُ أبدًا من مغامرات وأخطار وتهديدات ومصاعب لا حصر لها، خلال رحلتهم من ساحل مدينة طنجة غربًا حتى مكة شرقًا. ومن المؤكد أن هناك خصوصية لبعض البلدان في موسم الحج. فالركب المصري على سبيل المثال، كان يُعد إعدادًا جيدًا في كل عام. فقد كان أمير الحج المملوكي أو العثماني يخرج مع المحمل المصري، الذي هو عبارة عن هودج يوضع فيه كسوة الكعبة الجديدة، ليدور على نواحي القاهرة بصحبه الطبول والمزامير، منتظرًا قدوم مواكب الحجيج الأخرى من الغرب الإسلامي بكافة نواحيه، ليتحرك الجميع دفعة واحدة إلى الأراضي المقدسة. وظل هذا الأمر قائمًا حتى ثورة 23 يوليو 1952، حين افتتحت المملكة السعودية مصنعًا خاصًا بكسوة الكعبة، تقوم بتجديدها سنويًّا، لتوضع عليها يوم التاسع من ذي الحجة من كل عام .
ومنذ عصر النبوة وحتى الآن، ظل المسلمون يجتمعون بتلك الأعداد الكبيرة بمكة كل عام، بما لا يتوافر لأي مدينة أخرى في العالم، بمثل تلك الحظوة الربانية. وهذا ما جعل لها مكانتها الدينية التي شكّلت منها ملتقى للمسلمين من مختلف أقطارهم. فقد جاء إليها المسلمون حاجين ومعتمرين ومجاورين ووافدين ومقيمين. أنجزوا فيها من المؤلفات الكثير. وأنفقوا فيها من الذهب والمال الخير الوفير. وتبادلوا فيها من العلم والثقافة ما أقام الحضارة وأسس للتعاون والأخوة والترابط بينهم. فصارت على مدى التاريخ موسمًا، ليس للعبادة وأداء الشعائر والفريضة فحسب، بل غدت ملتقى لصفوة العلماء والمفكرين والأدباء من شتى بقاع العالم الإسلامي. وغدا الحج موسمًا للتعارف والتعاون والإطلاع والنظر في أحوال المسلمين. ورغم استقرار ثوابت الحج ورسوخها في قلوب المسلمين عبر التاريخ، ورغم حدوث متغيرات سياسية وتكنولوجية وفنية وغيرها، يظل للحج تلك الخصوصية في الاستطاعة والقدرة والرغبة لدى كل مسلم في التوبة والتطهر من الذنوب والآثام، ما يجعله يضحي بماله ويتجرد من ثيابه برغبته أملاً في الحج المبرور والذنب المغفور. فاللهم مكنّا من أدائه، وأهّلنا للوقوف بعرفاته، ولا تحرمنا من العفو فيه وغفرانه.