الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فأقول والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم: إن الله سبحانه وتعالى خلق الثقلين ليعبد وحده لا شريك له، وأمر جميع العباد من الجن والإنس بعبادته التي خلقوا لها، قال جل وعلا: وما خلقْتُ الْجن والْإنْس إلا ليعْبُدُون * ما أُريدُ منْهُمْ منْ رزْقٍ وما أُريدُ أنْ يُطْعمُون * إن الله هُو الرزاقُ ذُو الْقُوة الْمتينُ[1]، وقال سبحانه: يا أيُها الناسُ اعْبُدُوا ربكُمُ الذي خلقكُمْ والذين منْ قبْلكُمْ لعلكُمْ تتقُون * الذي جعل لكُمُ الْأرْض فراشا والسماء بناء وأنْزل من السماء ماء فأخْرج به من الثمرات رزْقا لكُمْ فلا تجْعلُوا لله أنْدادا وأنْتُمْ تعْلمُون[2].
فبين سبحانه وتعالى أنه خلق الثقلين ليعبدوه وحده، وأمرهم بهذه العبادة، وقال في ذلك: لعلكُمْ تتقُون فدل ذلك على أن في عبادته سبحانه تقوى كل ما يضرهم، واستجلاب كل ما ينفعهم.
والتقوى هي: اتقاء محارم الله، وأسباب غضبه، واتقاء كل ما يضر في الدنيا والآخرة، وذلك بطاعة الله ورسوله، وهي عبادته سبحانه وتعالى. فإن العبادة هي: توحيد الله جل وعلا، وطاعته بفعل أوامره، وترك نواهيه، كل هذا يسمى عبادة، وكله يسمى طاعة، وكله يسمى تقوى، فمن عبده سبحانه وأخلص له العبادة، وأطاع أوامره، وترك نواهيه، فقد اتقاه سبحانه وتعالى، ومن اتقاه فقد وعده سبحانه الخير في الدنيا والآخرة، وتفريج الكروب، وتيسير الأمور والرزق من حيث لا يحتسب.
وبهذا يعلم أن عبادته سبحانه وتعالى، وتقواه جل وعلا هي سبب الأمن والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وأن الكفر به والإشراك به، ومعصيته هي سبب الهلاك والشقاء والخوف والضلال في الدنيا والآخرة، وقد أرسل الرسل سبحانه وتعالى، وأنزل الكتب للدعوة إلى هذه العبادة، والأمر بها، وبيان ما رتب عليها من أنواع السعادة والخير، قال جل وعلا: ولقدْ بعثْنا في كُل أُمةٍ رسُولا أن اُعْبُدُوا الله واجْتنبُوا الطاغُوت فمنْهُمْ منْ هدى اللهُ ومنْهُمْ منْ حقتْ عليْه الضلالةُ فسيرُوا في الْأرْض فانْظُرُوا كيْف كان عاقبةُ الْمُكذبين[3]، فأبان سبحانه وتعالى بهذا أن من اتبع الرسل وصدقهم فله السعادة والهداية والخير العظيم، ومن كذبهم فله العاقبة الوخيمة في الدنيا والآخرة، وقد أخبرنا سبحانه في مواضع كثيرة عن عواقب المكذبين، وأنهم صاروا إلى أنواع العذاب في الدنيا وفي الآخرة، قال جل وعلا: ولقدْ أخذْنا آل فرْعوْن بالسنين ونقْصٍ من الثمرات لعلهُمْ يذكرُون[4] وقال في آية أخرى: فكُلا أخذْنا بذنْبه فمنْهُمْ منْ أرْسلْنا عليْه حاصبا ومنْهُمْ منْ أخذتْهُ الصيْحةُ ومنْهُمْ منْ خسفْنا به الْأرْض ومنْهُمْ منْ أغْرقْنا وما كان اللهُ ليظْلمهُمْ ولكنْ كانُوا أنْفُسهُمْ يظْلمُون[5]، وقال عز وجل: وما أصابكُمْ منْ مُصيبةٍ فبما كسبتْ أيْديكُمْ ويعْفُو عنْ كثيرٍ[6]، وقال سبحانه: ما أصابك منْ حسنةٍ فمن الله وما أصابك منْ سيئةٍ فمنْ نفْسك[7]، وقال جل وعلا: أولمْ يسيرُوا في الْأرْض فينْظُرُوا كيْف كان عاقبةُ الذين كانُوا منْ قبْلهمْ كانُوا هُمْ أشد منْهُمْ قُوة وآثارا في الْأرْض فأخذهُمُ اللهُ بذُنُوبهمْ وما كان لهُمْ من الله منْ واقٍ[8]، وقال جل شأنه: ظهر الْفسادُ في الْبر والْبحْر بما كسبتْ أيْدي الناس ليُذيقهُمْ بعْض الذي عملُوا لعلهُمْ يرْجعُون[9].
فأشار سبحانه في هذه الآيات إلى عقوبة المكذبين، وأنهم عوجلوا بالعقوبة في الدنيا، مع ما لهم في الآخرة من العذاب الأليم.
ولكن الله سبحانه رفع عن هذه الأمة العذاب العام رحمة منه لعباده سبحانه وتعالى، كما قال جل وعلا: وما أرْسلْناك إلا رحْمة للْعالمين[10]، ومن ذلك أن الله رحمهم فلم يعذبهم العذاب العام، كما جرى على الأمم الكثيرة قبلهم، كعاد وثمود، وقوم لوط وغيرهم. أما هذه الأمة فقد رحمها الله، فلم يعاقبها بالعقوبات العامة، ولكنه أصاب من أصاب منها بالعقوبات الخاصة، وأوضح جل وعلا أن من اتقاه واستقام على أمره، فإنه سبحانه وتعالى يهبه من فضله تفريج الكروب، وتيسير الأمور، والرزق العظيم، والجنات والكرامة، كما قال جل وعلا: ومنْ يتق الله يجْعلْ لهُ مخْرجا * ويرْزُقْهُ منْ حيْثُ لا يحْتسبُ[11]، ومنْ يتق الله يجْعلْ لهُ منْ أمْره يُسْرا[12]، ومنْ يتق الله يُكفرْ عنْهُ سيئاته ويُعْظمْ لهُ أجْرا[13].
فبين سبحانه وتعالى أن من اتقاه حصل له الخير العظيم، وذلك بتكفير السيئات، وتفريج الكروب، وتيسير الأمور، وإعظام الأجر، والرزق من حيث لا يحتسب، كما وعد سبحانه المتقين بحصول الفرقان الذي يميز به بين الحق والباطل مع الفوز بالجنة والنجاة من النار، في قوله عز وجل: يا أيُها الذين آمنُوا إنْ تتقُوا الله يجْعلْ لكُمْ فُرْقانا ويُكفرْ عنْكُمْ سيئاتكُمْ ويغْفرْ لكُمْ[14]، وقوله سبحانه: إن للْمُتقين عنْد ربهمْ جنات النعيم[15]، فالمتقي لله هو العابد لله سبحانه، المستقيم على أمره، المطبق لشريعة ربه في نفسه وفي غيره حسب طاقته بفعل الأوامر، وترك النواهي، وإنما يصاب من يصاب بالمكاره والضيق العاجل والآجل، والعذاب الشديد بإعراضه عن أمر الله، وعدم تطبيقه لشريعته سبحانه، وإخلاله بشيء من أوامره، أو ارتكابه شيء من محارمه عز وجل، فيصاب بشيء من ذلك عقوبة له، إما عاجلا وإما آجلا.
لهذا يقول جل وعلا في موضع آخر من كتابه الكريم: ولوْ أن أهْل الْقُرى آمنُوا واتقوْا لفتحْنا عليْهمْ بركاتٍ من السماء والْأرْض ولكنْ كذبُوا فأخذْناهُمْ بما كانُوا يكْسبُون[16]، ويقول جل وعلا: ظهر الْفسادُ في الْبر والْبحْر بما كسبتْ أيْدي الناس ليُذيقهُمْ بعْض الذي عملُوا لعلهُمْ يرْجعُون[17]، ويقول جل وعلا: ولنبْلُونكُمْ بشيْءٍ من الْخوْف والْجُوع ونقْصٍ من الْأمْوال والْأنْفُس والثمرات وبشر الصابرين[18].
فالله جل وعلا يبتلي عباده بأسباب ما يقع منهم من خلل في أوامره، أو نواهيه، يبتليهم بأشياء فإن صبروا وبادروا بالتوبة والإصلاح، وعالجوا الأوضاع بالرجوع إلى أمر الله، والتوبة مما حصل منهم من تضييع أمر الله، أو ركوب محارم الله أصلح الله حالهم واستقاموا، ورد لهم ما كان شاردا، وأصلح لهم ما كان فاسدا، وأعطاهم بعد الخوف أمنا، وبعد الذل عزا، وإن استمروا في طغيانهم وضلالهم، وما وقعوا فيه من إصرار في تضييع أمر الله، وركوب محارمه ابتلاهم بأنواع العقوبات.
ولهذا قال جل وعلا فيما ذكر عن نبيه وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وكيْف أخافُ ما أشْركْتُمْ ولا تخافُون أنكُمْ أشْركْتُمْ بالله ما لمْ يُنزلْ به عليْكُمْ سُلْطانا فأيُ الْفريقيْن أحقُ بالْأمْن إنْ كُنْتُمْ تعْلمُون[19]، ثم فصل القضية فقال: الذين آمنُوا ولمْ يلْبسُوا إيمانهُمْ بظُلْمٍ أُولئك لهُمُ الْأمْنُ وهُمْ مُهْتدُون[20]، فأبان سبحانه أن أهل الشرك هم أهل الخوف، وهم أولى بالخوف، وعدم الأمن؛ لأنهم أشركوا بالله وظلموا عباد الله، وتعدوا حدوده، فصاروا أولى بالخوف، وعدم الأمن، ولهذا لا أمن لهم، فهم مهددون بالعقوبة والنقمات في سائر الأوقات، قال جل وعلا: ولا يزالُ الذين كفرُوا تُصيبُهُمْ بما صنعُوا قارعة أوْ تحُلُ قريبا منْ دارهمْ حتى يأْتي وعْدُ الله إن الله لا يُخْلفُ الْميعاد[21] فهم لا يزالون في أنواع البلايا والمحن والنقمات بأسباب كفرهم وضلالهم، وعنادهم للحق، واستكبارهم عن طاعة الله عز وجل.
أما أهل الإيمان والتقوى فلهم الأمن العاجل والآجل، والذين آمنوا ووحدوا الله، وأخلصوا له العبادة، واستقاموا على أمره، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، المعنى ولم يخلطوا إيمانهم بظلم أي بشرك.
واللبس أي الخلط أُولئك لهُمُ الْأمْنُ وهُمْ مُهْتدُون، جاء في الحديث الصحيح أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، لما نزلت هذه الآية جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم وجثوا عنده على الركب وقالوا: ((يا رسول الله نزلت آية لا نطيقها، من هو الذي لا يلبس إيمانه بظلم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ليس هو الظلم الذي تعنون، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: إن الشرْك لظُلْم عظيم[22] إنما هو الشرك)). فبين لهم عليه الصلاة والسلام أن الظلم الذي يمنع الأمن والاهتداء مطلقا هو الشرك بالله عز وجل، والكفر به سبحانه وتعالى.
وبهذا يعلم أن من أشرك بالله وكفر به لا أمن له، ولا هداية له في الدنيا والآخرة، بل هو ضال مضل في الدنيا والآخرة، وعاقبته وخيمة، عاقبته النار مع ما له في الدنيا من أنواع العقوبات والنقمات، وما يحل به من أنواع الكوارث، وقد يستدرج الكافر والعاصي ويملي لهما حتى تكون عقوبتهما أكثر، وحتى يكون جزاؤهما أشد وأغلظ، قال جل وعلا: ولا تحْسبن الله غافلا عما يعْملُ الظالمُون إنما يُؤخرُهُمْ ليوْمٍ تشْخصُ فيه الْأبْصارُ[23] فقد يؤجل للإنسان عقوبته، ويملي له، ثم تكون عقوبته بعد ذلك أكثر وأشد وأعظم.
وقال سبحانه: فلما نسُوا ما ذُكرُوا به فتحْنا عليْهمْ أبْواب كُل شيْءٍ حتى إذا فرحُوا بما أُوتُوا أخذْناهُمْ بغْتة فإذا هُمْ مُبْلسُون[24]، فإذا سلم العبد من أنواع الظلم: ظلم الشرك، وظلم المعاصي، وظلم العباد في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم، إذا سلم من هذه الأنواع الثلاثة حصل له الأمن الكامل، والاهتداء الكامل في الدنيا والآخرة.
أما إن سلم من الظلم الأكبر وهو الشرك، ولكن بقي معه شيء من الظلم الأصغر وهو ظلم العباد، وظلمه لنفسه بالانغماس في المعاصي، فإن هذا يكون معه أصل الأمن ومعه أصل الهداية، وأصل النجاة من الخلود في النار، ولكنه على خطر في دنياه وفي أخراه، على خطر من العقوبات في الدنيا وفي الآخرة، فليس له أمن كامل ولا اهتداء كامل، بسبب ما معه من أنواع المعاصي، وظلم العباد.
وبهذا يعلم أن تطبيق الشريعة، والعناية بذلك واستكماله، من أعظم أسباب كمال الأمن، وكمال الهداية وكمال السلامة والحياة الكريمة، وأن العبد متى أخل بشيء مما أوجب الله عليه، أو ارتكب شيئا مما حرمه الله عليه، فإنه يناله من اختلال الأمن، ومن اختلال الهداية، ما يناله بحسن ما لديه من تقصير في أمر الله أو ركوب لبعض محارم الله جل وعلا.
وهكذا شأنه في الآخرة قد يعفى عنه، ويغفر له ما حصل منه من النقص، وقد يعذب في النار على قدر ما مات عليه من النقص، ثم بعدما يطهر ويخلص من الخبث الذي مات عليه غير تائب يكون إلى الدار الطيبة، إلى دار الكرامة بعد تخليصه من آثار ذنوبه وسيئاته التي مات عليها مصرا.
ولا ريب أن من تطبيق الشريعة إقامة الحدود على المجرمين، وتعزير العصاة، والأخذ على أيدي السفهاء، وإلزام الناس بالحق، وبهذا تصان الدماء والحقوق، ويأمن الناس، ويعطى الحق لصاحبه، ويمنع الظالم عن ظلمه.
وبهذا يأمن العباد في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، وبهذا تستقيم أحوالهم المعيشية، وتتحسن حياتهم، ويتمكنون من المكاسب الصالحة، والحياة الكريمة، في ظل الأمن في ظل تطبيق الشريعة، في العبادات والمعاملات، والحدود وغير ذلك. ولا يستقيم أمر للعباد ولا حياة كريمة، ولا أمن مع إضاعتهم لحدود الله، وعدم قيامهم بأمره، وارتكابهم لمحارمه، فإن ذلك له أسباب تسليط الله عليهم، ومن أسباب وجود أنواع المخاوف، وعدم الاطمئنان، ومن أسباب تسليط بعضهم على بعض، حتى لا يتمكن الناس من الحياة الكريمة والأسباب المفيدة من الزراعة والتجارة وغير ذلك؛ لأن الخوف الذي أصيبوا به بسبب أعمالهم الخبيثة، ومعاصيهم، يمنعهم من كثير من الأسباب التي تنفعهم في الدنيا والآخرة، ويجعلهم في حياة قلقة، غير مطمئنة، فلا يطمئنون إلى الأكساب الطيبة، والأرزاق السليمة، لا من طريق التجارة، ولا من طريق الزراعة، ولا من الطرق الأخرى؛ بسبب ما لديهم من المخاوف والعدوان من بعضهم على بعض، وهذا مجرب قديما وحديثا، وكل بلاد استقامت على أمر الله، وحكم حكامها شريعة الله، تطمئن ويقل فيها الخوف ويسود فيها الأمن، وتحصل فيها الحياة الكريمة، وتسهل الأرزاق، ويعيش الناس في أمن وعافية وطمأنينة في كل شيء.
وكل بلاد تضيع فيها الشريعة، ولا تقام فيها حدود الله، يكثر فيها الخوف، ويقل فيها الأمن، وتسود فيها الفوضى، وتكثر الرذائل، وتقل الفضائل، ولا يطمئن الناس في عيش ولا في رزق، قال الله تعالى: وضرب اللهُ مثلا قرْية كانتْ آمنة مُطْمئنة يأْتيها رزْقُها رغدا منْ كُل مكانٍ فكفرتْ بأنْعُم الله فأذاقها اللهُ لباس الْجُوع والْخوْف بما كانُوا يصْنعُون[25].
وكل من نظر في العالم، وأحوال الناس، يعلم ما ذكرنا عن يقين، وعن مشاهدة، فإذا تأمل المؤمن البصير حالة عصر الصحابة، وما فيه من الخير العظيم، والجهاد الواسع، والفتوحات الكثيرة، والأمن والأمان في البلدان التي حكمها المسلمون، بسبب تطبيقهم لشريعة الله، وتنفيذهم لأحكام شرعه الذي شرع، وإقامتهم لحدوده، يرى العجب العجاب، ويتضح له صحة ما ذكرنا من وجود الأمن والحياة الكريمة؛ بسبب تطبيق الشريعة الإسلامية العظيمة، ويعلم يقينا أيضا أن البلاد الأخرى التي سادت فيها الفوضى، واختل فيها الأمن، وتعدى فيها القوي على الضعيف، أن ذلك بأسباب عدم تحكيمهم لشريعة الله، وعدم قيام حكامهم بما يجب من الوازع الشرعي في إقامة الحدود والتعزيرات، والأخذ على يد الظالم، وإنصاف المظلوم، إلى غير ذلك.
وفي هذا المعنى يقول الله جل وعلا في كتابه الكريم: وعد اللهُ الذين آمنُوا منْكُمْ وعملُوا الصالحات ليسْتخْلفنهُمْ في الْأرْض كما اسْتخْلف الذين منْ قبْلهمْ وليُمكنن لهُمْ دينهُمُ الذي ارْتضى لهُمْ وليُبدلنهُمْ منْ بعْد خوْفهمْ أمْنا يعْبُدُونني لا يُشْركُون بي شيْئا[26].
وهذا واضح في أن ربنا عز وجل وعد عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن يستخلفهم في الأرض، ويمكن لهم فيها، كما مكن لمن قبلهم ممن عمل عملهم، واستقام على الإيمان والعمل الصالح، وأدى حق الله، وطبق الشريعة.
وعدهم سبحانه أن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا؛ وما ذاك إلا بأسباب إيمانهم وعملهم الصالح. والضد بالضد، فمتى أخلوا بالإيمان، وأخلوا بالعمل الصالح، تخلف هذا الوعد، فالجزاء من جنس العمل، فمن استقام على أمر الله، وطبق حقه سبحانه وتعالى، وأنصف المظلوم من الظالم، وأقام الحدود في ولايته، صارت بلاده في أمن وأمان، وراحة وطمأنينة، وحياة كريمة، تحقيقا لما وعد الله به عباده سبحانه وتعالى، وهو الصادق في وعده جل وعلا، ومتى أخلوا بذلك، ولم ينفذوا أمر الله، بل تساهل حكامهم بشريعة الله، ولم ينفذوا ما يجب من الحدود والتعزيرات الشرعية أصابهم في بلادهم من الخلل والضعف، واختلال الأمن ووجود الخوف والقلق بحسب ما عندهم من تضييع أوامر الله، وبحسب ما ضيعوا من إقامة حدود الله. وهذا كله واضح لمن سبر أحوال العالم، ودرس أحوال الدول الموجودة، والبائدة.
والخلاصة: أن وعد الرب جل وعلا لا يخلف، وأنه صادق في وعده سبحانه وتعالى، فمن آمن بالله ورسوله، وطبق شريعته بالعمل الصالح، منحه الله الأمن والتمكين والاستخلاف في الأرض كما وعد الله جل وعلا، وكما حصل لمن قبلنا من الخلفاء الراشدين، ومن سار على نهجهم ممن طبق شريعة الله واستقام على أمره سبحانه.
ومن ضيع ذلك أو أخل به، وتابع الهوى والشيطان في كثير من الأمور فاته الأمن والتمكين والاستخلاف بقدر ما ضيع من أمر الله، وارتكب من محارمه، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يرشد إلى هذا المعنى، ويبين أن الواجب على ولاة الأمور العناية بالشريعة، وبذل الجهود في تطبيقها في كل شيء حتى يتحقق للعباد الأمن والسعادة والحياة الكريمة في هذه العاجلة، ويتحقق لهم بعد ذلك في الأخرى الأمن أيضا من النار، والفوز بدار الكرامة والنعيم المقيم.
فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يحرض الناس دائما على القيام بأمر الله، ويحذرهم من ركوب محارمه، ويأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويذكر لهم عاقبة من نفذ أمر الله، وعاقبة من تساهل بأمره جل وعلا، ليتعظوا وليتذكروا، ويبتعدوا عن محارم الله، ويحذروا عواقبها الوخيمة، التي وعد بها من عصى ربه، وركب محارمه سبحانه وتعالى، ومن ذلك ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم، وقبل أن تسألوني فلا أعطيكم، وقبل أن تستنصروني فلا أنصركم))، ومن ذلك ما جاء في الحديث أيضا الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فواكلوهم وشاربوهم وجالسوهم، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم)) ذلك بما عصوْا وكانُوا يعْتدُون * كانُوا لا يتناهوْن عنْ مُنْكرٍ فعلُوهُ لبئْس ما كانُوا يفْعلُون[27]، وقال ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، أو على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقسرنه على الحق قسرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم)) رواه أبو داود والترمذي.
وهذا وعيد شديد يدل على أن من فعل مثلما فعل أولئك من إضاعة أمر الله، وعدم إنكار المنكر، وعدم الأمر بالمعروف، أنه متوعد بأن يصيبه ما أصاب أولئك، فإن القوم إنما أصيبوا بأفعالهم السيئة لا بأنسابهم ولا بأموالهم، بل أصيبوا بأفعالهم المنكرة، ولعنوا وغضب عليهم بأعمالهم القبيحة. فمن فعل فعلهم، وشاركهم في هذه المعاصي استحق مثل عقوبتهم، واستحق من الوعيد بمثل ما استحقوا، فإن الجزاء إنما هو على الأعمال، لا على الأنساب والأموال، ولكن على الأعمال، وعنادهم للحق على بصيرة. فمن شاركهم في هذا، وعمل كأعمالهم استحق من العقوبات بمثل ما استحقوا من غضب الله وعقابه جل وعلا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغار لمحارم الله، وينتقم لله، ويغضب لله، وما كان يغضب صلى الله عليه وسلم لنفسه، وما ذاك إلا لأن ظهور المعاصي والتساهل بها من أعظم الأسباب في اختلال الأمن، وفساد القلوب، وفساد المجتمع، وغضب الله سبحانه، والعذاب العاجل والآجل، فكان عليه الصلاة والسلام أحرص الناس على إقامة أمر الله في أرضه سبحانه. وكان أنصح الناس للناس عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))، وبايع صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم على أن ألا يشركوا بالله شيئا، ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم، إلى آخر ما جاء في البيعة المعروفة.
وبايعه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه وأرضاه على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، إلى غير ذلك مما جاء عنه عليه الصلاة والسلام، من الأوامر بالتزام أمر الله، والوقوف عند حدوده والحذر من محارمه، وبيان الوعيد لمن تعدى الحدود، أو أخل بالأمن، أو ارتكب المحارم.
ومن ذلك قصة المخزومية لما سرقت وأمر بقطع يدها، عظم ذلك على قريش بمكة، وقالوا: من يشفع فيها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فطلبوا من أسامة بن زيد أن يتقدم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليعفوا عنها ولا يقطعها، فغضب عليه الصلاة والسلام عند ذلك وقال: ((أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم خطب الناس فقال: إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
فبين عليه الصلاة والسلام أن إقامة الحدود من أهم المهمات، وأنه لا يجوز لأحد الشفاعة في ذلك بعد بلوغها السلطان، بل يجب أن تنفذ الحدود إذا بلغت السلطان حتى يكون ذلك رادعا للناس عن محارم الله، وسببا لاستقامتهم على أمره، وقيامهم بحقه سبحانه وتعالى.
ولما استوبأ أناس من العرنيين المدينة قدموا إليها مهاجرين أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا مع الإبل إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها ليزول عنهم بذلك ما أصابهم من الوباء، فخرجوا إلى هناك فلما صحوا وزال عنهم ما بهم من الأذى قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النعم وسمروا عين الراعي، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم سرية تتبع آثارهم حتى أدركوهم فجاءوا بهم إليه عليه الصلاة والسلام، فلما جاؤوا بهم إليه أمر أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وأن تسمر أعينهم، ويطرحوا في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا.
هذه العقوبة العظيمة الشديدة إنما كانت غضبا لله عز وجل؛ لأن هؤلاء كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا الراعي، وسمروا عين الراعي، وأخذوا الإبل، فجمعوا بين أنواع المنكرات السرقة والنهب والقتل، وسمر عين الراعي، والردة عن الإسلام بعدما عافاهم الله مما أصابهم؛ فلهذا عاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة عظيمة شديدة؛ لتكون رادعا لغيرهم من مثل هذا العدوان، فدل ذلك على أنه يجب على ولاة الأمور أن يعنوا بهذه الأمور، وأن يجتهدوا في عقاب المجرمين، والأخذ على أيدي السفهاء. كل ذلك حفظا للأمن وراحة للمسلمين، مع ما في ذلك من الحياة الكريمة والسلامة من شر المجرمين والمفسدين في الأرض.
ومن تتبع سيرته صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه رضي الله عنهم أجمعين من الخلفاء الراشدين وغيرهم عرف ذلك. فكان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم وأرضاهم في غاية من العناية بأمر المسلمين، والحرص على سلامتهم وأمنهم، وحياتهم الكريمة، فلما ارتد من ارتد من العرب قام الصديق في أمرهم، وأمر بقتالهم، وتوقف عمر رضي الله عنه في هذا بعض الشيء، ثم شرح الله صدره لما عرف الحق، ووافق هو والصحابة على ذلك، فقام الصديق في هذا الأمر العظيم، قياما كبيرا، وجهز الجيوش لقتال المرتدين والقضاء عليهم، ودعوتهم إلى الرجوع إلى دين الله الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، فمن قبل الحق، ورجع إليه قبل منه الصديق رضي الله عنه وكف عنه، ومن أبى قوتل على ذلك، حتى يرجع أو يقضى عليه.
وفي ذلك حفظ للأمن، وتثبيت للإسلام ولحياة المسلمين الكريمة، وإقامة للدعوة إلى الحق، وتثبيت للإيمان في القلوب، والتحذير من أن يدب هذا البلاء إلى غيرهم، فتعظم المصيبة، ويعظم الخطر، فعاجلهم الصديق رضي الله عنه وأرضاه بالسرايا والجيوش، حتى قضى على من استمر في ردته، وحتى هدى الله من هدى على يديه. فحصل بذلك من الأمن والعافية والطمأنينة ورجوع الكثير إلى الإسلام ما حصل، كل هذا ببركة الجهاد في سبيل الله، وقتال أعداء الله، والأخذ على أيدي المفسدين، إلى غير ذلك مما جرى في عهده رضي الله عنه وأرضاه، ثم في عهد عمر بعد ذلك قام رضي الله عنه أعظم قيام، واجتهد في بعث الجيوش إلى الشام والعراق وغير ذلك، وقام بغاية المطلوب من الجهاد رضي الله عنه وأرضاه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا في رؤياه العظيمة؛ أن الدلو استحال في يده غربا حتى ضرب الناس بعطن، ففي ذلك إشارة إلى ما فتح الله على يديه من الفتوحات العظيمة، وما حصل بسبب ذلك من الأمن والطمأنينة في البلاد، والحياة الكريمة للمسلمين. وما أسباب ذلك إلا تطبيق شريعة الله، والقيام بأمر الله وتنفيذه لحدوده، وإقامة ولاة أمور المسلمين للجهاد العظيم، في سبيل الله عز وجل حتى أمن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وحتى دخل الناس في الإسلام عن رغبة وبصيرة، وعاشوا في بلادهم حياة كريمة بأسباب قيامهم جميعا بأمر الله وجهادهم في سبيل الله، وتعاونهم على الخير.
وهكذا في عهد عثمان رضي الله عنه وأرضاه حصل من الخير الكثير، والجهاد العظيم ما حصل، واتسعت رقعة الإسلام في زمانه، وكثر الخير في وقت خلافته، ثم جرى ما جرى في آخر خلافته، وبعد مقتله من خلاف، فجرى بهذا شر عظيم، وفساد كبير، بسبب الاختلاف والتنازع الذي وقع من بعض الناس حتى أثاروا الشر والفساد بين المسلمين، وتسببوا في قتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه.
ثم ظهرت الخوارج وجرى ما جرى بسببهم هذا الفساد، وبسبب الإخلال بأمر الله، ثم رد الله الكرة واجتمعت الكلمة على معاوية رضي الله عنه وأرضاه، فعادت الأمور إلى مجاريها، واطمأن المسلمون، وساد الأمن في الأرض وقام الجهاد إلى غير ذلك.
وهذه أمثلة طاهرة فيها عظة وعبرة، وفي خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، حصل أيضا انتشار عظيم لهذا الخير العظيم، فإنه باستقامته وصلابته في الحق وجهاده فيه، ورده المظالم، وقيامه أكمل قيام حسب طاقته في تطبيق الشريعة، حصل في زمانه من الخير العظيم والطمأنينة والأمن، والحياة الكريمة ما حصل، كل ذلك بأسباب قيامه بأمر الله، وتطبيقه لشريعة الله، وجهاده في سبيل الله، وإنصافه للمظلوم وردعه للظالم، وتنفيذه الحدود إلى غير ذلك، مما حصل في خلافته من الخير.
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وجميع المسلمين لما يرضيه، وأن يرزقنا جميعا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يوفق ولاة أمر المسلمين لتطبيق شريعته، وتنفيذ حدوده، وإقامة أمره في أرضه، كما أسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان، وأن يثبتهم على الإيمان وأن يعينهم على تطبيق الشريعة، في أقوالهم وأفعالهم وعباداتهم ومعاملاتهم وغير ذلك، وأن يرزقنا جميعا الفقه في الدين، والاستقامة على أمر الله سبحانه وتعالى، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه جل وعلا جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله