الاعتكاف ـ رحمكم الله ـ فيكاد أن يكونَ من خصائص هذه العشر المباركة، فقد كان نبيكم محمد يعتكف في العشر الأواخر من رمضان كما أخرج ذلك مسلم في صحيحه، ويقول الإمام الزهريّ: "عجبًا للمسلمين! تركوا الاعتكافَ مع أنَّ النبيّ ما تركه منذ قدِم المدينةَ حتى قبضه الله عز وجل".
عبادَ الله، ومما يجمع لكم ذلك كلَّه طهارةُ القلب وسلامة الصدر؛ مما يورث محبة الله ومحبة عباده؛ فإنك ترى أقوامًا طُهرًا بريئةً أيديهم طاهرة قلوبهم يتحابّون بجلال الله، ينيبون إلى ذكرِه، ويغضبون لمحارمه، ويتلطَّفون مع عباده، تمتلئ قلوبهم بمعرفةِ ربهم وخشيتِه وعبادتِه ومحبته وتعظيمه ومهابته وإجلالِه والأنس به والشَّوق إليه، قال بعض السلف: "تعوَّدوا حبَّ الله وطاعته؛ فإنَّ المتقين ألِفوا الطاعة فانصرفت جوارحهم عن غيرها". قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وهذا هو سرُّ التّوحيد ومعنى لا إلهَ إلاَّ الله، فلا يُؤَلَّه غيرُ الله حبًّا ورجاءً وخوفًا وطاعَة، فإذا تحقَّق القلبُ بالتّوحيد التامّ لم يبقَ فيه محبّةٌ لغير ما يحبه الله، ولا كراهةٌ لغير ما يكرهه الله، ومن كان كذلك لم تنبعث جوارحه إلا بطاعة الله، وإنما تنشأ الذنوب من محبة ما يكرهه الله أو كراهة ما يحبه الله، وذلك ينشأ من تقديم هوى النفس ومشتهاها على محبة الله وخشيته، وذلك يقدح في كمال التّوحيد الواجب، فيقع العبد بسبَب ذلك في التفريط في بعض الواجبات وارتكاب بعض المحظورات" انتهى كلامه رحمه الله.
ألا فاتقوا اللهَ رحمكم الله، فشهركم هذا نفيس، لا قيمةَ له فيباع، ولا يستدرَك منه ما ضاع، لقد جدَّ الجادّون، فلا ترضَوا لأنفسكم بالدون. اعملوا وجِدّوا وشمّروا حسبَ الطاقة والاستطاعة، فمن عجز بالليل كان له بالنهار مُستَعتَب، ومن عجز بالنهار كان له بالليل مستَعتَب. والمؤمن العاقل المحاسبُ نفسَه قد ينسى بالليل ويذكر بالنهار، وينسى بالنهار ويذكر بالليل، ولقد جاء رجل إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه وقال له: لا أستطيع قيام الليل، قال: فلا تعجَز بالنهار. والمغبون من غُبِن خيرَ الليل وخير النهار.
فاستودِعوا أيَّامَكم هذه الصالحات، فإن العمرَ منتَقَص وزائِل، ولا تفوتكم الفرَص، فيا ويلَ الغافل، متى يُغفَر لمن لم يغفر له في رمضان؟! ومتى يشفَى قلب من لم تُشفِه آيات القرآن؟! ومن أنفَعِ أيام المؤمن ما ظنَّ أنه لا يدرِك آخره، وحقيقة الزهدِ قِصَر الأمل، والموت معقودٌ بالنواصي، والدنيَا تطوَى من ورائكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبِهديِ محمّد ، وأقول قولِي هذا، وأستَغفِر اللهَ لي ولَكم ولسائرِ المسلمين مِن كلّ ذنبٍ فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرّحيم.