والمشكلة أن بعض الناس لا يدرك أن جهاز أمن الدولة المرعب، ليس مجرد جهاز منفصل عن سائر أجهزة الدولة، ولكنه يتمدد في كل خلايا الدولة، ويُحرِّك كل المؤسسات والإدارات والمصالح حتى الأندية الرياضية والجمعيات الاجتماعية والثقافية؛ لدرجة أن تعيين وزير أو مدير أو مدرس ابتدائي أو خفير مرهون بموافقة هذا الجهاز المرعب المخيف.. الدولة كلها تخضع لجهاز القمع الرهيب، وخلاياها جميعًا في قبضته، والمجتمع كله يُصاب بالرعب عندما يسمع اسمه أو يعلم أن أحد ضباطه سيمرُّ من هنا.
ومع ذلك فرجال الجهاز يستعدون لجمع صفوفهم من جديد، والاحتشاد مرةً أخرى لإثبات وجودهم، واستعادة هيبتهم، وإحكام سيطرتهم، والتسلل إلى المؤسسات والاجتماعات وفرض الوجود مرةً أخرى.
والغريب أنهم مثلاً منعوا الدكتور حازم فاروق، وهو من الإخوان المسلمين، وكان نائبًا في مجلس الشعب الذي انتخب عام 2005م؛ من السفر في الأسبوع قبل الماضي، وطلبوا من النادي الاجتماعي في دمنهور أن يمتنع عن استضافة احتفالٍ بشهداء الثورة كان يشرف عليه الإخوان المسلمون، وقد رفض النادي في جمعيته العمومية الاستجابة لهذه الإرادة القمعية الخبيثة، وتم الاحتفال، وانتهى دون أن يتأثر الأمن القومي أو الاجتماعي، ودون أن تحدث كارثة من أي نوع، ولكن الذي حدث هو ظهور مدى الاستهانة بالناس والمجتمع من جانب قادة جهاز الرعب الفاشل الذي لم ينجح إلا في ارتكاب جرائم الاعتقال والتعذيب والقتل وانتهاك الحرمات والتجسس على الاتصالات والخطابات.
هذا الجهاز لا ضرورة لوجوده، ولا مسوغ لاستمراره، اللهم إلا إذا كان النظام السابق يريد عن طريق رموزه الذين ما زالوا في السلطة أن يجهضوا الثورة، وأن يخرجوا لسانهم للشهداء والجرحى والمفقودين، والشعب الذي خرج بأسره في شتى أرجاء البلاد ليعلن إرادته الحازمة بإسقاط النظام.. ويبدو أن هذه الرموز تقول للشعب المصري، إن النظام لم يسقط، وعاد أكثر قوةً ونشاطًا وإجرامًا بعودة أمن الدولة الجهنمي إلى ممارسة نشاطه الإجرامي دون عقاب أو حساب.
قبل الخامس والعشرين من يناير، كان رأس النظام يعين المحافظين من قيادات هذا الجهاز، وكان وزير الداخلية السابق- ومثله اللاحق- يُركِّز على تعيين مديري الأمن في المحافظات من هذا الجهاز الرهيب، وكذلك مديري الإدارات الكبرى في مديريات الأمن، وبعد ذلك فإن مَن يخرجون إلى المعاش يذهبون للعمل مستشارين بالمحافظات، وسكرتيري عموم، ومساعدي سكرتيري العموم، وربما رؤساء مدن وأحياء، ويذهبون إلى أجهزة مختلفة مثل التعليم والتجارة الخارجية والعمل والإعلام والإسكان وأجهزة الرقابة الإدارية والمحاسبات والتنظيم والإدارة والسكة الحديد والاتصالات، ومَن لم يلحق بالقطار الحكومي فله مجال أكثر حيويةً في السياحة والأنشطة الاقتصادية والحراسات الخاصة والمؤسسات الاستثمارية وغيرها.
لقد منح النظام البائد هذا الجهاز صلاحياتٍ مطلقةً في كل شيء لدرجةٍ تُمكِّنه أن يقول القول الفصل في أية قضية أو أي موضوع كان كبيرًا أو صغيرًا، له أهمية أو غير ذي أهمية.
وفي المقابل فإن السلطة منحت الجهاز وأفراده إمكانات وامتيازات بلا حدود، فميزانيته مجهولة ويستطيع أن يستورد أحدث آلات التعذيب والإرهاب والقتل، والتنصت والتجسس على المواطنين، وكان من اللافت أن التسجيل الذي أشرنا إليه من قبل بين رئيس التحرير العميل ونجل صاحب عبارة الموت، تم عبر الكمبيوتر أو الإنترنت، أي لم يكن من خلال هاتف ثابت أو محمول أو عبر حديث مباشر وجهًا لوجه، ولكنه تم من خلال وسيلة معقدة، وهو ما يستدعي أجهزة حديثة غاية في التعقيد.
أضف إلى ذلك الإغداق غير المحدود ماديًّا ومعنويًّا على الضباط والأفراد والعملاء التابعين للجهاز، عدا الحوافز والهدايا وكشوف البركة التي تمنح لهم من جهاتٍ تعتصر المواطنين عصرًا مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي وكارتة المرور وغراماته، وأرباح الشركات والمؤسسات، كلٌّ في منطقته؛ ما يجعل دخول الضباط، وخاصةً الرتب العليا، خرافية، وتحفزهم إلى إعطاء القانون إجازةً إلى الأبد!
لقد نشرت بعض الجهات خطة عودة الجهاز المرعب، والتمكين له بدعمٍ من رئيس الوزراء ووزير الداخلية اللذين أقسما اليمين أمام الرئيس السابق، بصورةٍ تؤكد أن النظام لم يسقط، وأن النظام هو: أمن الدولة!
وتكشف الخطة عن محاولة قيادات الجهاز ترتيب صفوفها، وترميم المقار التي تعرَّضت للحرق، واستعادة الملفات المفقودة، وصياغة خطة إعادة انتشار وتغلغل جديدة لعملاء الجهاز في كل أنظمة التيارات السياسية والجماعات الإسلامية والحركات الاحتجاجية، على أن يتم التركيز في الفترة المقبلة على بحث كيفية التصدي لمستجدات ما بعد 25 يناير، وبلورة ملامح الفترة المقبلة، ورصد ميزانيات ضخمة لتطوير أداء إدارة "مكافحة نشاط الإنترنت" بهدف رصد شباب "الفيس بوك"، ومتابعة نشاطاتهم، وإنشاء جروبات موالية لأمن الدولة تستهدف إثارة البلبلة والتحكم في دفة الآراء المطروحة وتوجيهها نحو أهداف وأجندات بعينها.
وواضحٌ أن الحديث عن إعادة هيكلة الجهاز وإحداث تغييرات جذرية في قياداته، وسحب العديد من الملفات من بين يديه محاولة لكسب الوقت، وامتصاص غضب الثوار وتهدئتهم حتى يتم ترتيب البيت من الداخل، وعودة الجهاز بصورة قوية وصارمة، ثم تبدأ مرحلة جديدة في ثوب جديد يعود فيه باشوات النظام أشد قسوةً وأكثر وحشيةً، ويترحم الناس على ما قبل الخامس والعشرين من يناير!!
إن إلغاء أمن الدولة يجب أن يكون الهدف الأول والعاجل للثورة حتى لا يعود النظام البائد، ولا يستمر الفساد والمفسدون