دراسة: أجهزة الدولة تمتلك أساليب كثيرة للتأثير على نتائج الانتخابات قبل أن تبدأ
[size=12]أبحث منذ فترة عن دراسة تساعدني على فهم انتخابات مجلس الشعب المصري المقبلة، دراسة تخرج عن إطار القيل والقال، وتوفر لي الحقائق الأساسية (معلومات وتواريخ وإحصاءات) عما يدور في انتخابات مصر النيابية.
وبعد جهد وجدت ضالتي في دراسة لم تلق حظها من الاهتمام الإعلامي على الرغم مما توفره من إحصاءات يندر وجودها مجتمعة في مكان واحد، ومن فرط إعجابي بالدراسة بت أعتقد أنها قراءة ضرورية لكل معني بانتخابات مجلس الشعب المصري المقرر عقدها يوم الأحد المقبل.
الدراسة التي أقصدها هي تقرير "المشاركة السياسية في الانتخابات النيابية 2005: العوائق والمتطلبات " الصادر عن الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية في عام 2006 للباحث الدكتور سامر سليمان أستاذ الاقتصاد السياسي بالجامعة الأميركية بالقاهرة.
صدرت الدراسة في عام 2006 - والتي لم تلق حقها من الاهتمام الإعلامي – كما يبدو من بحث سريع عنها على شبكة الانترنت، ومع ذلك تعد نموذجا يحتذي في الدراسات التي يحتاجها المشهد السياسي والإعلامي العربي عموما.
مؤلف الدراسة د. سليمان لا يتحدث عبرها إلا من خلال أرقام وإحصاءات جمعها من سجلات رسمية ودولية عن مشاركة المصريين في انتخابات مجلس الشعب المصري منذ عام 1984 - حين عقدت أول انتخابات برلمانية في عهد الرئيس المصري الحالي حسنى مبارك - وحتى انتخابات عام 2005.
هذا يعني أن الدراسة تقارن بين ستة انتخابات برلمانية عقدت على مدى عشرين عاما، وتلخص في محتواها أهم معالم المشاركة في الانتخابات البرلمانية في عهد مبارك.
حجم ما توفره الدراسة من معلومات عن تلك المرحلة مفيد للغاية، ويجعلها منطلقا هاما لفهم ما يدور في انتخابات مجلس الشعب المصري، كما يجعلنا نتمنى أن يتبع د. سليمان أو "جمعية النهوض بالمشاركة" الدراسة الحالية بدراسة جديدة تتضمن نتائج الانتخابات الراهنة في أقرب فرصة.
عموما ما تتضمنه الدراسة مفيد بما يكفي كمفتاح لفهم انتخابات الأحد المقبل، وفيما يلي عرض لأهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة.
أولا: مجلس الشعب المصري بلا سلطات تقريبا، فهو خاضع للسلطة التنفيذية التي تتقدم بمشاريع القوانين وتمررها من خلال أغلبية أعضاء الحزب الوطني في البرلمان.
وهذا يعني - كما يقول التقرير - أن النخبة السياسية المصرية لا توجد في البرلمان، وأن مجلس الشعب المصري ليس ساحة نقاش أو جدل وتفاوض حقيقي حول القوانين أو السياسات، إنما هو في الحقيقة ساحة نقاش عام للتنفيس عن المعارضة ضمن إطار ترتضيه النخبة الحاكمة.
كما أن انتخابات مجلس الشعب ليست إلا ساحة يجدد الحزب الحاكم من خلالها نخبه، فمن يسقط في الانتخابات يتوارى عن الأضواء، والنخب الجديدة تصعد وتفوز في الصراع الانتخابي، كما أنها ساحة أيضا لتحسين صورة النظام بعض الشيء.
ثانيا: غالبية الشعب المصري أو 80 % منه لا يشاركون في الانتخابات، وهذه حقيقة هامة للغاية، فمن يشارك هم حوالي ربع المسجلين في السجلات الانتخابية، والمسجلون في السجلات الانتخابية يمثلون حوالي ثلاثة أرباع من يحق لهم التصويت، وهذا يعني أن ربع من يحق لهم التصويت - حوالي 9 ملايين مصري - غير مسجلين، كما أن غالبية الشعب والمسجلين لا يشاركون.
سبب عدم المشاركة هام للغاية فالشعب يدرك – كما يوضح الكتاب - أن البرلمان ليست ساحة صناعة السياسة، كما أن الشعب يرفض الخوض في الانتخابات بسبب تكلفتها المرتفعة.
فالكتاب يقول أن الانتخابات تحسم بالقوة - قوة المال والعنف الجسدي - فالأثرياء يستخدمون المال والعنف (استئجار الفتوات والبلطجية) للفوز بالانتخابات، هذا إضافة إلى استخدام أجهزة الدولة نفسها و في أحيان كثيرة للعنف لصالح مرشحيها المفضلين، هذا ناهيك عن عمليات التزوير الواسعة التي تشهدها العملية الانتخابية بداية من سجلات الناخبين، وقيد المرشحين، والتصويت يوم الانتخابات.
ولهذا لا يجد المواطن العادي مبررا كافيا للمشاركة في الانتخابات وتحمل تكلفتها الكبيرة خاصة فيما يتعلق بإمكانية تعرضه للعنف من قبل أجهزة الأمن أو "بلطجية" المشرحين، لذا يفضل البقاء في البيت كما فعل ويفعل غالبية الشعب المصري على مدى انتخابات مجلس الشعب خلال عهد مبارك.
ثالثا: من يشاركون في الانتخابات وهم حوالي 20 % من الشعب يشاركون فيها لأنهم مضطرون لذلك، وهم في الغالب الطبقات الأكثر فقرا والأقل تعليما. هؤلاء يضطرون للمشاركة في الانتخابات أملا أو طمعا، فالبعض يحصل على ثمن مباشر لمشاركته (بيع الأصوات) وآخرون يتم حملهم على المشاركة من خلال الوعود أو من خلال حافلات المؤسسات التي يعملون بها.
لذا ترتفع نسب المشاركة في القرى والأحياء الفقيرة ووسط بعض موظفي الحكومة وعمال شركات القطاع الخاص.
وهذا يعني أننا أمام عملية سياسية منقلبة رأسا على عقب، فالمفترض في غالبية الدول أن عاتق المشاركة السياسية يقع على أكتاف الطبقات المتعلمة والوسطى التي تريد المشاركة حماية لانجازاتها ولنظام دولتها وقيمها.
ولكن يبدو في مصر أن المرشحون أثرياء يعبرون عن أقلية في الشعب المصري، والمصوتون فقراء يستخدمهم الأثرياء كمستودع للأصوات يوم الانتخابات.
الكتاب يحتوي على عدد كبير من الإحصائيات عن حجم التصويت في كل محافظة من محافظات مصر، والتي تكشف عن عزوف عام عن التصويت بكل أنحاء الجمهورية، وعن ارتفاع ملحوظ في التصويت بالمحافظات الريفية والمناطق الأكثر فقرا (تصوت بنسبة حوالي 30%)، أما المحافظات الأكثر تنمية كالعاصمة القاهرة فلا يصوت فيها سوى 12% تقريبا من السكان.
رابعا: تتراجع أعداد المصوتين كلما زاد الإشراف القضائي على الانتخابات مما يحد من عمليات التلاعب في كشوف المصوتين، ولكن زيادة الرقابة القضائية تزيد من ظاهرة الرشاوى الانتخابية، فزيادة الإشراف القضائي يقلل من إمكانية تزوير كشوف الناخبين ويدفع بعض أثرياء المرشحين لشراء مزيد من الأصوات التي كان يمكن أن يحصلوا عليها مجانا أو بتكلفة أقل لو توفرت لهم فرصة تزوير أكبر عدد من السجلات في غياب الرقابة القضائية.
خامسا: لم يحدث تغييرا كبيرا في أعداد المرشحين لخوض الانتخابات على مدى عهد مبارك والتي تتراوح حوالي 6-8 مرشحين لكل مائة ألف مواطن.
المهم هنا هو هو تغير طبيعة المرشحين أنفسهم، فأعداد المرشحين المستقلين في تزايد بشكل مستمر، وهذا على حساب مرشحي الأحزاب بما فيها الحزب الوطني، وهذا يعني أن ثقة النخب السياسية والاقتصادية الجديدة في الأحزاب القائمة في تراجع وأنها تفضل خوض الانتخابات مستقلة.
سادسا: تمتلك أجهزة الدولة أساليب كثيرة للتأثير على نتائج الانتخابات قبل أن تبدأ، وذلك من خلال التحكم في آليات هامة مثل تسجيل المرشحين وتقسيم الدوائر الانتخابية، فإذا أرادت الأجهزة الأمنية إسقاط مرشح ما لحساب أخر مفضل لديها قامت برسم دائرته بشكل يفقده مناصريه أو يضمن مؤيدين لمنافسه.
وهذه قضية على أعلى قدر من الأهمية لا يتم التعامل معها كثيرا من قبل وسائل الإعلام، وتستحق الاهتمام في موسم الانتخابات الراهن وفي المستقبل.
الكتاب يقول أيضا أن دوائر الانتخابات لم تقسم في الماضي بشكل متساوي بين المرشحين، وهذا يعني هدم قاعدة التمثيل المتساوي، فمن المفترض أن يمثل أعضاء البرلمان الشعب المصري بشكل متساوي، وذلك عن طريق تقسيم الدوائر الانتخابية لتضمن أعداد متقاربة من المواطنين، وهو ما لم يحدث في مصر في الانتخابات السابقة، فبعض الدوائر تضم 18 ألف ناخب فقط، وبعضها يضمن أكثر من 350 ألف ناخب، مما يعني أن هناك اختلاف في نسبة التمثيل تتراوح بين 1-20 مرة.
سابعا: بما أن الحزب الوطني هو الحزب الحاكم والمسيطر على الدولة والحكومة والبرلمان في آن واحد، فلا مانع من أن تستخدم سياسات الدولة نفسها لخدمة أهداف الحزب، فقبل الانتخابات تبادر الدولة بإعلان عدد لا بأس به من السياسات والعلاوات والمزايا التي تصب في صالح موظفي الدولة والطبقات الفقيرة التي تمثل المستودعات الأساسية لناخبي الحزب الوطني الحاكم.
وهنا يرصد الكتاب بالأرقام ظاهرة على أعلى قدر من الأهمية وهي ظاهرة تراجع قدرة الدولة على التوظيف وتقديم الدعم وتوفير الموارد اللازمة لإرضاء قطاعات واسعة من المواطنين، وذلك في مقابل تزايد قدرات القطاع الخاص، ولهذا صعد نجم رجال الأعمال والمستقلين خلال العقدين الماضيين، فالدولة لم تعد قادرة على شراء الرضا والأصوات كما كان الحال في الماضي، وعمال القطاع العام في تراجع، في حين أن عمال القطاع الخاص في تزايد.
لذا صعدت طبقة رجال الأعمال، واتجه الحزب الوطني نحوهم لضمهم تحت قيادة ما يسمى بمجموعة "الفكر الجديد".
ويقول الكتاب أن مجموعة "الفكر الجديد" داخل الحزب الوطني ضمت مجموعة من المثقفين لتحسين صورة الحزب، وهؤلاء المثقفون لا حول لهم ولا قوة عندما يتعلق الأمر بالمشاركة السياسية أو الترشيح للبرلمان، أو خوض الانتخابات، فهم لا يمتلكون المال أو أدوات العنف اللازمة لخوض تلك الانتخابات، ويقتصر دورهم على التنظير والإعلام وتحسين الصورة.
أما المجموعة الثانية فهم رجال الأعمال، والذين يمتلكون المال لشراء الأصوات والأتباع والبلطجية إذا لزم الأمر، لذا بات الحزب في توجهه الجديد وكأنه حزب رجال الأعمال الذين يتزايد تمثليهم في البرلمان والحكومة بشكل مضطرد.
ثامنا: أحزاب المعارضة كالوفد والتجمع وغيرهم في تراجع مستمر وتلاقي الهزيمة بعد الأخرى، وذلك لأسباب داخلية مثل غياب الديمقراطية الداخلية، وأسباب خارجية مثل قبضة الدولة الشديدة على الانتخابات والحياة السياسية بشكل عام.
تاسعا: الأخوان هم الأقدر سياسيا حاليا على منافسة الحزب الحاكم، بل يبدون أحيانا أكثر نظاما وانضباطا من الحزب الوطني، فالأخوان – كما ترصد الدراسة - يخوضون الانتخابات موحدون، والسياسة المصرية لا تعرف حتى الآن ظاهرة "مرشح الأخوان المستقل"، في حين يعاني الحزب الوطني بشكل متزايد كل موسم انتخابات من منافسة مئات المرشحين المستقلين المنشقين عن الحزب.
كما أن الأخوان الأكثر قدرة على الوصول إلى الطبقة الوسطى على عكس الحزب الوطني، وهم الفئة الغائبة في الانتخابات المصرية، والفئة الأهم، ويقول الكتاب أن مرشحي الأخوان ينتمون في غالبيتهم للطبقة الوسطى، وأنهم ينجحون في حشدها وفي حشد الناخبات أيضا، وهذا يرجع إلى إستراتيجية الإخوان منذ الثمانينات وهي إستراتيجية انتخابية بامتياز حرصت على التواصل مع الناخبين من خلال مشاريع خدمية مباشرة.
وتقول الدراسة أن الإخوان لا يدفعون برجال أعمالهم إلى الانتخابات، ويفضلون خوضها بمرشحين يمثلون الطبقة الوسطى كأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين خاصة من تدربوا منهم على العمل النقابي، وهذا لا يعني أن الإخوان لا يمتلكون مناصرين في طبقة رجال الأعمال والأثرياء، فهم يعتمدون في حملاتهم على إمكانات مادية كبيرة، ولكن من الواضح أن الإخوان لم يدفعون بأثريائهم إلى مقدمة العمل السياسي.
وتشير الدراسة إلى أن الأخوان لم يحشدوا دعم غالبية الشعب المصري، فالغالبية العظمى تقاطع الانتخابات، وما حصل عليه الإخوان في انتخابات عام 2005 لا يتعدى 1.9 مليون صوت بعد الضغوط الكثيرة التي تعرضوا إليها خاصة في المرحلة الثانية والثالثة من التصويت، وهذا يعني أن الصراع على غالبية الناخبين المصريين مازال مفتوحا على مصراعيه.
عاشرا: المصريون الأقباط يشعرون بالتهميش وبقدر كبير من الإحباط، فهم مستبعدون تقريبا عن البرلمان منذ عام 1957 والذي شهد أول انتخابات برلمانية في عهد ثورة يوليو، والتي قضت على الأحزاب الليبرالية كالوفد التي كانت قادرة على ضم الأقباط والصعود بهم إلى قبة البرلمان في إطار من التسامح الديني.
أما الحزب الوطني فلا يبدو معنيا بالدفع بعدد أكبر من الناخبين الأقباط بين صفوفه، فهو مشغول بالسلطة بالأساس وبالدفع بمرشحين قادرين على الفوز في الانتخابات كما يشير الكتاب ضمنا، كما يرفض الحزب الوطني إجراء الانتخابات وفقا لنظام القائمة النسبية، والذي يمكن أن يسمح بتمثيل متزايد للفئات المهمشة كالنساء والأقباط.
في المقابل تعيش الكنيسة المصرية حالة من التعبئة السياسية الحريصة على تسجيل أكبر عدد من الناخبين الأقباط في السجلات الانتخابية وتشجيعهم على التصويت على أمل إحداث الفارق وتمثيل أنفسهم أو إجبار الآخرين - وخاصة الحزب الوطني - على تمثيلهم.
وهنا يشير التقرير إلى مظاهر عديدة للدعم المباشر من قبل كنائس مصرية ورجال دين مسيحيين لمرشحي الحزب الوطني في انتخابات سابقة، ويقول أن استمرار الكنيسة في جهودها الرامية لتسجيل أكبر عدد من الناخبين الأقباط وحثهم على المشاركة قد يعني قريبا أننا أمام كتلة ناخبين أقباط تبلغ 3-4 ملايين ناخب قادرة على إحداث الفارق في أي انتخابات.
في النهاية لا ننسى أن نؤكد على أهمية الكتاب، وعلى أهمية ما ورد فيه من معلومات وإحصاءات عديدة ومفيدة يستحيل إيفائها حقها من العرض والتحليل في مقال واحد.
كما نأمل أن نكون قد ساهمنا – من خلال مقالنا هذا - في لفت الأنظار إلى الدراسة الهامة وتشجيع أكبر عدد من المعنيين على قراءتها والاستفادة منها في فهم الموسم الحالي من انتخابات مجلس الشعب المصري.
[/size]